الرؤية الفلسفية والعقلية في شعر المتنبي
لا شك أن المتنبي((أحمد بن الحسين)) الذي عاش بين عامي 303 _354 للهجرة كان ومازال علماً في تاريخنا الأدبي والفكري
ولد في الكوفة ,وتعلم القراءة والكتابة , خرج إلى البادية ,وخالط فيها فصحاء البدو,أخذ عنهم الفصاحة.كما لزم الورّاقين,وقرأ كثيراً من الكتب.لقد أثرت بيئة عصره في شعره, فظهرت نفسه القلقة,ومزاجه الحاد وأخلاقه الصارمة,ومنظومة القيم لديه
سمع صليل السيوف , وشهد الكثير من المعارك, وهو في بلاط سيف الدولة, وبرع في وصف المعارك, كان نابغاً حريصاً على التمسك بقيمه العليا,كالشرف والشجاعة وعلو الهمة , ومازال الناس حتى اليوم في شغل به ,لئن فاته العرش الذي يبغي الوصول إليه في حياته, فقد تبوأ عرش العقول والقلوب بعد مماته , إنه الخالد الذي تروى حكمه السائرة كل يوم , يقول:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي...................................إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً
فسار به من لا يسير مشمّراً.......................................وغنى به من لا يغني مغرداً
عبر هذه الإطلالة, نحاول المرور منهجياً في بعض مسائل الرؤية لديه, قد تكون الرؤيا صوراً , أو نظرة إلى العالم وتبصراً في مصير الإنسان, وتقييماً للصراع بين الخير والشر , وبياناً في التعبير عن فلسفة الحياة,إنها تجربة جمالية , تقوم على استبصار القارىء فيها ((إنها نظرة شاملة وليست فلسفة شاملة))
تحمل كل قصيدة جزءاً من رؤية , يمكن الكشف عنها في البنية والأسلوب والصور, إن مهمة النقد هي إعادة تركيب رؤية الشاعر ((ومجموع الرؤى الجزئية تؤلف الرؤيا الكلية للشاعر))
إن الأدب عالم مغاير, بهذا يكون لدينا من العوالم بقدر ما يكون لدينا من رؤى, قد تكون الرؤيا نسبية كونها تعبيراً عن وجهات نظر لمبدعين صاغوا بواسطتها تجربتهم الحياتية الفنية, فتولدت في عقل شامل وفكر حساس , يستجيب لتجارب الحياة استجابة فنية, تفسيراً للحياة, واقتراحاً لها.
يقول المتنبي معزياً سيف الدولة بوفاة أخته الصغرى , وهي قصيدة أنشدها عام 334 للهجرة , تقع في واحد وأربعين بيتاً , يبدأ مطلعها:
إن يكن صبرُ ذي الرزية فضلاً ......................فكن الأفضل الأعزَّ الأجلا
أنت يا فوق أن تُعزَّى عن الأحباب...................فوق الذي يعزّيك عقلا
أجد الحزن فيك تحفّظاً وعقلا............................وأراه في الخلق ذعراً وجهلا
لك إلفٌ يجرُّه وإذا ما كرُمَ...........................الأصل كان للإلف أصلا
في إطار تبصّر الرؤية المعرفية , التي يقدمها هذا النص, نرى مسألة أدبية خلقية حياتية وهي الصبر على الشدائد, وكيف يعلو الصبر لمرتبة الفضيلة , يزداد فضل حامله,إن صبر سيف الدولة يجب أن يفوق صبر الآخرين, لمنزلة فضله, وتميّزه بينهم.
هذا النوع من الربط الفلسفي بين علاقتين :
مستوى الفضل يقابله مستوى الصبر
مستوى المعرفة والعقل يقابله كونه فوق التعزية وحاجة المعزين.
إن ديباجة المتنبي الشعرية , وصياغته الفنية الإيقاعية, شعراً لمجمل هذه الرؤيا , خدم شكل تقديم هذه الرؤيا ومادتها, فهي قد لا تحمل كل الجديد, ولكن إعادة صياغتها, واقتران الفضل بالصبر, كقيمة إنسانية , ليس بالغنى أو المنصب أو الجاه, ربما اكتساها البعد الجديد, فالصبر عنوان حياتيّ كبير محرّكه العقل, أما حزنك فهو حفظ مودة يقابله حزن غيرك (قلق وخوف)محلك من الكرم والوفاء يقابله حسن المؤالفة.
يتابع الشاعر تقديم رؤاه في أبيات تالية:
وإذا لم تجد من الناس كفواً................ذاتُ خدر أرادت الموت بعلا
آلة العيش صحة وشباب.......................فإذا ولّيا عن المرء ولّى
أبداً تسترد....ما تهب الحياة................فيا ليت جودها كان بخلا
يقدم هذا المقطع رؤيا فلسفية ومعرفية, هي أن المرأة الكفء ذات الجمال والخلق والسوية, إذا لم تجد زوجاً مناسباً لها ومعادلاً لجمالها ومآبها, أرادت الموت زوجاً موفياً لحق جلالتها, دون أن تقع فيمن هو ليس أهلاً لها, فتعيش حياة تعاسة وبؤس.
إن رؤيا حقيقة وضرورة التكافؤ هذه, والندية المطلوبة في مثل هذه الحالات, هي لمح ٌ فلسفية تنسحب على كل أشكال العلاقات غير المتكافئة بين كبار بدلالة الكلمة وإنسانية المعنى , وبين صغار بالدلالة الصغيرة نفسها وما يورثه ذلك من خلل علائقي, وتشويه وظلم بادٍ دائماً في مستوى العلاقات والتعامل, من هنا , جاء خيار الموت في المثل السابق, وخيار اللاشيء في حالات أخرى, أفضل من أن يتصاغر الكبير في علاقته وتعامله.
إن لذيذ الحياة ومستحبّها, والرفيع المطلوب فيها: أنفس وأشهى من أن يُملّ ويستطال, فإذا ارتقت النفس الإنسانية , وتعلقت بالمثل الأعلى , ابتعدت عن صغائر الحياة, وحلقت في فضاء قيمي راقٍ, حيث تنتفي الملالة , ويُتجاوَز المادي المزعج.
أما تضجّر الشيخ العاجز من الحياة, فليس كرهاً لها, ومللاً منها, لكنه العجز والضعف والمرض , فالحياة أشهى من أن تُملَ ,إن الرؤيا هنا صراعية بين رغبة الحياة والتعلق بها, وبين العجز الجسمي ومتطلبات ومستلزمات الحركة ومتعة الحياة, معادلة محاولة النهوض يقابله الضعف والهرم والتلاشي, إنها رغبة الصعود والأمنيات الخائبة, فالحياة صحة وشباب, ورحيلها يعني رحيل المرء(فإذا ولّيا عن المرء ولّى)...إنه الذهاب حيث لا عودة بعده, وهذه حقيقة أزلية, أما في مسألة عطاء الدنيا وأخذها (فيا ليت جودها كان بخلا) تسترد ما تعطي فلمَ هذا العطاء, سيعكس بذهابه الحسرة والفقد والخيبة ومرارة النفوس, يتابع في وصف الدنيا:
وهي معشوقة على الغدر لا تحفظ.......................عهداً ولا تتمّ وصلا
دنيا محبوبة عن أهلها, على غدرها وقلة وفائها , لا تتم وصلها, اللحظة الفلسفية هنا هي التعلق بالدنيا , وهي الغادرة التي لا يدوم ودها, فلمَ لا يُعمل الإنسان عقله ويعيد حسابه فيما ينفع جوهر وجوده.....كل هذه الإطلالات الفلسفية التي أوردها المتنبي شعراً , هي غالباً في أبيات القصيدة حين لم تجعل القصيدة من ذكر أخت سيف الدولة سوى الإشارة لذات الخدر التي اختارها الموت .
استفاد المتنبي من مناسبة القصيدة ليصوغ معان وأبعاداً فلسفية, ورؤى في الحياة والموت والصداقة والشباب والتكافؤ, لقد قدم درساً فلسفياً أغناه جمالاً ديباجته النضرة , ومتانة البناء الشعري لديه, وحتى موسيقية القصيدة وغنائيتها الجيدة, ورويها اللامي بفضائه الواسع, و(اللا) كما نعلم أداة نفي , وكأن الشاعر أراد هذا الروي الانقطاعي ليقيم جدلية الحياة :
الجود والبخل.......المودة وزوالها......الفرحة والحزن.....الوصل والانقطاع....النهوض والعجز....وغيرها من ثنائيات الحياة
رحم الله المتنبي علماً في تاريخنا الأدبي والفكري , ويصح فيه القول:أديب في الفلاسفة وفيلسوف في الأدباء.
يوسف مصطفى