د خالد السيفي
ورطة الجسد
ونبذ العنف ضد الذات
هذه المذاهب نبذت الجسد واعتبرته مَفسدة ولعنة وعورة. أدانوه بالعمالة للشيطان. فحكموه بالسجن المؤبد مع الأعمال الشاقة. تفنّنوا في إذلاله وأبدعوا في تعذيبه، فدعت إلى إهماله حينا وتجويعه أحيانا، لا بل حرّضت الدماغ والروح عليه، فميّزوا ضد أجزاءه وفضّلوا بعضها على بعض..... إلاّ تنترا
فهذا العضو يجب اضطهاده، وذاك تدليله وإرساله، أما هذا فيجب نتشه وتنقيبه. أجزاء اعتبرتها عورة يجب قمعها، وأخرى مقدّسة يجب إيثارها، وبعضها صُنّفت مَكْرَهة يجب إخفاءها وتغييبها وخلعها رمزا للطهارة. أما هذا فوجب تشريفه وإجلاله والسجود له والاحتفاء به وإقامة الوليمة على شرفه.
كيف لا، وهم يفضلون الرِّجْل اليمنى، والذكر الشَّعور والأنثى الحلساء الملساء . بل تبرّؤا من كل ما ينتسب للأنثى من رأسها إلى أخمصها، وأوجبوا تكفينها وسدّ جميع منافذها ومتنفساتها لكي لا يسيل شيطانها غواية فيوسوس في الصدور إلى يوم النّشور، فأصبحت لا تعتبر إلاّ عورة وثغرة ومَكرهة، ولا تُرى إلاّ ثقوب وعيوب وذنوب.
أمسى الناس يخافون من أجسادهم فعادوها حتى مقتوها، وتمنّوا لو أنهم يتخلصون منها. كرهوها فلعنوها كلعنة الشيطان صبحَ مساء. تفرقت الأعضاء بهُوّة لم يعد بالإمكان ردمها. أصبح الإنسان مُتشظّيا بين أعضاءه، منحازا ومنتصرا لبعضها محتقرا خجولا من بقيّتها، وكأن هذه إرادة الله وتلك رغما عنه؟! .
ترى الناس ممزّقين إلى أجزاء متنافرة وأشلاء متناحرة، بعيدة عن الانسجام مع طبيعتها. هذا العضو ينادي غرائزه وفطرته فيغمز ويشد باتجاه، وآخر يريد أن يتبع عقله ومنطقه وشريعته فيشير ويسحب في الاتجاه المعاكس، والروح حائرة بين هذا وذاك. لَعمري إنها ورطة ما بعدها ورطة بكرة وأصيلا.
هذا الجسد المسكين، في الظاهر احترموه، لكن... عمليا حرَموه وحرّموه. عبدوه فاستعبدوه ومن ثم عبَّدوه. وَدّوه فوَأدوه، تزوّجوه في سجن زجّوه، أرادوه فأبادوه، عشقوه فشنقوه ومن شدة ما شاءوه شيّئوه. أصبح لا يدري أديانة هي أم إدانة، أسياسة أم تياسة، فتمنى أن لا يكون جسدا، بل لحدا.
أينما أدرْت النظر تجدهم مشوشين مرتبكين خائفين ومنافقين لذواتهم ، ثم لمن وظفّ نفسه رقيبا على أجسادهم.
ورّطوا الجسد فشقّوه ومزّقوه، انتهكوه وامتهنوه وأهانوه، نقَّبوه ونقَبوه، حجَّبوه وحجَبوه. لم يسلم من المتاجرة ولا من المشاجرة ولا حتى من المؤامرة. منهم من عرّاه لمفسَد، ومنهم من حجبه لمكسب. هذا باعه، وهذا روّعه. ومنهم من شرعنه ومنهم من فرعنه، هؤلاء شيّعوه، وهؤلاء شايعوه، فلكلٍ دين وشرعة، ولكل غاية ومتعة. ضاع الجسد ما بين الدين والسياسة والجهل وحاصره القسيس والرئيس والخسيس.
تنترا تقول: أنت من مصدر واحد، أنت كلٌّ جميل متكامل، فلا داعي للانقسام والحيرة. أنت تستطيع الوِحدة مع أعضاءك وذاتك لأنك في حقيقتك وجوهرك موَحّد، فلا داعي للقلق أو اللخمة أو الجنون أو الانفصام.
إفهم ما أنت عليه، وما هي طبيعتك، ومَنْ أنت، واقبِل على كلِّ ما فيك بكلّيّتك دون خجل أو وجل. تستطيع أن ترتقي بهذا كلّه بالمحبة والتّعاطف والتأمّل والرّعاية والاهتمام والإبداع.
الجسد ليس عدو لروحك، بل كغمد السيف لها. تسكن الروح إليه وتتعبد في محرابه. جسدك هو بمثابة البيت لها فلا تفصلها عنه، لأنك لو فعلت تُمسي فارغا ميتا، فلا تجعله قبرا مقفرا ولا محجرا قاحلا. أرجوك لا تدع روحك تهجرك. جسدك صديقك فاعتني به وأحببه وارعاه وارفق به.
تنترا تُسقط جميع أنواع العنف.. ليس فقط ضد الآخر، بل العنف ضد الذات. وتنصح بأن تحب واقعك بكلّيّته، نعم....
نعم ما زلت تحتاج لتطوير الكثير من واقعك، لكن لن يحدث هذا إلا من خلال الحب الشامل والمحبة الكلية، أي بدون تمييز، أولا باتجاه ذاتك وثانيا باتجاه الآخرين.
سراها يقول:
هكذا العقل الواعي لدى البعض،
مِن الممكن أن يحوِّل خِدَع الحواس إلى رحيق.